يوم الأحد الأسود- تغييرات جذرية بالأقصى تُنهي الوضع القائم

المؤلف: د. عبد الله معروف08.20.2025
يوم الأحد الأسود- تغييرات جذرية بالأقصى تُنهي الوضع القائم

مما لا شك فيه أن يوم الأحد، الموافق الثالث من شهر أغسطس/آب، كان اليوم الأكثر قتامة وسوءًا في تاريخ المسجد الأقصى المبارك منذ وطئت أقدام الاحتلال أرضه في السابع من يونيو/حزيران عام 1967.

ففي هذا اليوم المشؤوم، طرأت تحولات جوهرية وغير مسبوقة على المسجد الأقصى، لم تخطر ببال أحد منذ بدء الاحتلال الغاشم، وأرست واقعًا جديدًا أنهى الوضع القائم في المسجد بشكل فعلي، ولا يمكن تخيل وضع أسوأ منه إلا إذا تمكن الاحتلال من تقسيم المسجد، أو بناء كنيس بداخله، لا قدر الله.

لقد شهد هذا اليوم تدفقًا هائلاً وغير مسبوق من المستوطنين المتطرفين إلى باحات المسجد الأقصى، حيث بلغ عددهم 3969 مستوطنًا، وفقًا لإحصائيات دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس.

والمثير للدهشة والاستغراب، أن جماعات المعبد المتطرفة اعترضت على هذا الرقم، إذ زعم المتطرف (أساف فريد) أن العدد الفعلي للمقتحمين الذي سجله اتحاد منظمات المعبد هو 3527 مستوطنًا، بفارق يقارب 400 مستوطن.

والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن إحصاء دائرة الأوقاف الإسلامية أكثر دقة وموثوقية؛ لأنها تحتسب جميع المقتحمين، بمن فيهم أولئك الذين يدخلون المسجد تحت ستار "السياحة"، وليس فقط نشطاء جماعات المعبد المتطرفة، كما تفعل هذه الجماعات.

وهذا الأمر حقيقي وواقعي، لأن ما يسمى "السياحة" في المسجد الأقصى تجري منذ عام 2003 برعاية جيش الاحتلال الإسرائيلي، دون أي موافقة أو تنسيق مع الأوقاف الإسلامية.

لكن ما حققته جماعات المعبد المتطرفة في هذا اليوم لم يقتصر فقط على أكبر عدد من المقتحمين في تاريخ الأقصى، بل تجاوزه إلى الطريقة التي تم بها هذا الاقتحام؛ حيث شهد اليوم أحداثًا بالغة الخطورة من قبل المقتحمين؛ فقد استولوا على ساحات المسجد الأقصى المبارك بشكل كامل، واختاروا إقامة ما يسمى "صلاة شماع"، التي تعتبر الصلاة الأساسية في الديانة اليهودية، في ساحة المصلى المرواني، إلى جانب الجامع القِبلي، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع.

كما أقيمت صلوات "بركات الكهنة" وصلاة الصباح والظهيرة في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى المبارك، والتي بات الاحتلال اليوم يعاملها ككنيس معنوي غير معلن، ويَمنع المسلمين من الصلاة فيها أو الاقتراب منها حتى في غير أوقات الاقتحامات.

ولم تكتف جماعات المعبد المتطرفة بذلك، بل كررت في هذا اليوم المحاولات المستميتة لإدخال أدوات خاصة للصلاة، وعلى رأسها لفائف التوراة، وقد نشر المتطرف (تومي نيساني)، زعيم منظمة "بيدينو" المتطرفة، صورة لنفسه وهو يحمل لفائف التوراة الكبيرة ويدور بها في البلدة القديمة؛ احتجاجًا على عدم تمكينه من إدخالها إلى المسجد الأقصى.

ولم يتردد بعض أعضاء هذه الجماعات في إدخال أداة "التيفلين"، التي تلف على الأيدي والرؤوس وتستخدم للصلاة، إلى داخل المسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى أداء ما يسمى "السجود الملحمي" الجماعي.

وإلى جانب هذه النقاط المتعلقة بالشكل الديني للمناسبة، باعتبارها تتعلق بذكرى خراب المعبدين الأول والثاني حسب الأسطورة الدينية، عمد المستوطنون إلى "قومنة" هذا اليوم الديني؛ أي إضفاء طابع قومي عليه، وهذا يحدث للمرة الأولى، في مقابل حرصهم المسبق على إضفاء صبغة دينية على المناسبات القومية.

فقد لوحظ هذا العام رفع الأعلام الإسرائيلية بشكل جماعي داخل المسجد الأقصى، وهو أمر يقتصر عادة على ما يسمى "عيد الاستقلال" ذي الطابع القومي.

وإذا وضعنا هذه العملية في سياق ما يجري خلال الأعياد القومية بالمقابل كما ذكرنا، فإننا نجد أنفسنا أمام عملية منظمة لخلط طبيعة المناسبات التي يحتفل بها المستوطنون في المسجد الأقصى، وصبغها بشكل موحد جديد "ديني- قومي".

ويهدف ذلك إلى جعل قضية السيطرة على المسجد مسألة لا تخص التيارات الدينية في إسرائيل فحسب، وإنما تجذب حتى بعض أنصار التيارات القومية العلمانية التي تعتبر مسألة المعبد رمزية تاريخية قومية فقط.

وبمعنى آخر: نحن الآن أمام نقطة تحول تاريخية عملت فيها جماعات اليمين الإسرائيلي وتيار الصهيونية الدينية على تحويل الصراع على المسجد الأقصى ليشمل الكل الإسرائيلي بشقيه: المتدين والعلماني، الذي تجمعه قومية الدولة اليهودية حسب رؤية هذه الجماعات.

وذلك بعد أن كان صراعًا يبدو محدودًا مع قسم صغير من تيار متدين في دولة الاحتلال، كانت تمثله جماعات المعبد المتطرفة المعزولة عن المجتمع والحكم، وبعيدًا عن التدخل المباشر للمستوى السياسي في إسرائيل.

هذا التحول الإستراتيجي في شكل الصراع مثّله حرصُ المقتحمين على أن يكون ممثلو المستوى السياسي الإسرائيلي موجودين على رأس كافة محطات الاقتحام؛ فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قاد بنفسه عملية الاقتحام من ثلاث نقاط: بدأها بمنطقة باب القطانين مع المتدينين الحريديم، ثم انتقل لقيادة الاقتحام بل وقيادة صلاة جماعية داخل المسجد الأقصى، وختمها بالانتقال إلى أداء الصلوات في منطقة حائط البراق.

وأما عضو الكنيست عن حزب الليكود، عميت هاليفي، وهو عراب مشروع تقسيم المسجد الأقصى الذي قدمه للكنيست قبل عملية طوفان الأقصى بثلاثة أشهر، فقد قاد عملية رفع الأعلام الإسرائيلية داخل المسجد الأقصى، وذلك برفقة عضوة الكنيست السابقة عن حزب البيت اليهودي شولي موعلام التي قادت غناء النشيد الوطني الإسرائيلي "هاتيكفا" في الأقصى. بينما قاد عضو الكنيست عن حزب الليكود أيضًا أوشر شيكليم عملية السجود الملحمي داخل المسجد.

هذا المستوى غير المسبوق من التداخل الإسرائيلي بين الرسمي والشعبي والقومي والديني في قضية المسجد الأقصى المبارك، يجعل أي حديث عن الوضع القائم في المسجد اليوم مجرد وهم وسراب.

فمكتب بنيامين نتنياهو الذي اعتاد العبث بهذه القضية لم يتأخر في سخريته المعهودة بإصدار بيان بعد كل ما جرى في المسجد- برعاية المستوى السياسي- ليدعي أن إسرائيل "متمسكة بالحفاظ على الوضع القائم" في المسجد الأقصى.

وهذا التصريح لم يعد اليوم أكثر من هراء لا يهدف إلا إلى ذر الرماد في العيون، حيث يبدو واضحًا أن تفسير مكتب نتنياهو لفكرة "الوضع القائم" يختلف عن المعنى القانوني لهذا التعبير، إذ يشير نتنياهو إلى أن فهمه للوضع القائم هو كل واقع جديد يفرضه الاحتلال في المسجد الأقصى، وبالتالي فلا معنى لادعاءات مكتبه بالحفاظ على الوضع القائم والتمسك به.

ولا ننسى هنا أن قراري السماح للمستوطنين بأداء الصلوات جهارًا في المسجد الأقصى عام 2024، ثم السماح بالرقص والغناء علنًا في المسجد عام 2025، كلاهما صدرا عن الحكومة الإسرائيلية التي يرأسها نتنياهو- ممثلةً بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- فعن أي وضع قائم يتحدث مكتب رئيس الحكومة؟

هذا المنطق الإسرائيلي لا يمكن فهمه إلا في نطاق استخفاف نتنياهو بالمستوى الرسمي العربي والإسلامي الذي يهتم بالتصريحات كما يبدو أكثر مما يهتم بالوقائع على الأرض.

وهذا أمر لم يعد مقبولًا ولا مفهومًا، إذ لا بد أن يكف المسؤولون العرب والمسلمون عن دفن رؤوسهم في الرمال والقول إن ما يجري مجرد "غيمة صيف" يمينية متطرفة ستزول مع سقوط حكومة نتنياهو الحالية.

فأقصى اليمين المتطرف في إسرائيل بات يحكم الدولة بالكامل، وشكل الآن فيها دولة عميقة عبر التغييرات الجذرية التي قامت بها حكومة نتنياهو الحالية على مدى السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة.

وينبغي أن نعلم أن المسجد الأقصى ليس بمنأى عن هذه التغييرات التي تستهدفه الآن بشكل مباشر، وقد بات الاحتلال يشعر بالارتياح في تنفيذ هذه الأجندة؛ لأنه لا يجد أي مقاومة في المكان أو في الإقليم كاملاً، وهو لا يخفي هذا الارتياح.

ففي السابع عشر من شهر يوليو/تموز الماضي انتشر مقطع فيديو لعضو الكنيست السابق عن حزب "زيهوت" موشيه فيجلين، الذي أعتبره للحقيقة أوضح من يكشف نوايا الاحتلال وطبيعة نظرته للمسجد الأقصى دائمًا، حيث قال في كلمة له في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى: (إن أول من أدرك أننا انتصرنا في هذه الحرب- في المسجد الأقصى- هي الأوقاف الإسلامية).

وأضاف: (قيل لنا على مدار سنوات إن صعودكم إلى جبل المعبد "المسجد الأقصى" سيشعل الشرق الأوسط، والواقع أنه كلما زاد صعودنا إلى المكان وأداء الصلوات بصوت مرتفع بالغناء والرقص، فإن الوضع في الأقصى يصبح بالنسبة لنا أكثر هدوءًا، فلم ينفجر الشرق الأوسط ولم يحترق شيء).

وخلاصة القول، أن الاحتلال نجح في هذا اليوم في تسجيل علامة فارقة وتحول جذري في الصراع على المسجد الأقصى المبارك، وذلك باتجاه فرض هوية يهودية موازية تمامًا للهوية الإسلامية للمسجد، بل وتتفوق عليها في حالات الصراع، وذلك تمهيدًا لإيجاد موطئ قدم دائم في المسجد الأقصى يكون بداية الهيمنة الكاملة على المسجد، كما جرى في المسجد الإبراهيمي في الخليل.

وسنظل نكرر مرارًا وتكرارًا أن الحل الأمثل لهذه القضية يبدأ من تصعيد الضغط، وتأزيم الوضع الراهن، وكلام فيجلين الذي أوردناه يؤكد هذه الحقيقة، فتأزيم الوضع في القدس شعبيًا ورسميًا على حد سواء هو السبيل الوحيد- وليس الأفضل فقط- ليدرك الاحتلال أن الاقتراب من الأقصى سيكون له ثمن باهظ لا يستطيع تحمله. وإلا فإنه سيتقدم بخطوات متسارعة وغير مسبوقة مستغلاً حالة الضعف والانحدار التي تعيشها المنطقة والإقليم إلى أقصى حد، قبل أن نستفيق من الصدمة على واقع مرير جديد لا نود حتى أن نتخيله، وعندها لن يجدي الندم نفعًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة